في يوم الجمعة ١٤٣٧/٩/١٩هـ وفي أيام الله وبينما الناس صيام! جريمة بشعة تهز أركان المجتمع السعودي بكل قسوة وعن سبق إصرار استدرج توأمان داعشيان (خالد وصالح) والدتهم وسددا لها طعنات بالسلاح الأبيض حتى لفظت أنفاسها الأخيرة وقاما بطعن أبيهما وأخيهما، هل هي قيم الدين؟! أين أعراف المجتمع؟! أين هي العروبة؟!
أريق دم الأم بوحشية، الصورة تحفر ألما عميقاً في ذاكرة التاريخ السعودي، ويبقى السؤال في غصة الحلق: كيف حدث ذلك؟! في مجتمع مسلم، في مجتمع يوقر الكبار في مجتمع يفاخر بالتقاليد العربية، في مجتمع يتربى فيه الفرد منذ نعومته على تقبيل يد الوالدين؟!
الواقع أغرب من الدراما:
سبقت الجريمة النكراء بليلة واحدة حلقة من مسلسل سلفي عن داعشي يقتل أباه برشاش ناري! وكانت صدمة الدراما البشعة أهون من صدمة الواقع، فهي تمثيل، وخيال ليس بواقع! ولكن الواقع جاء بأغرب من الخيال، فالجاني توأمان والضحية أم وأب وأخ والسلاح ساطور أبيض أنه مشهد يستعصي على الدراما تصويره أنه أبعد بكثير عن الخيال!!
والحال هو الحال، فيصدمك مغرد يقول: ليته يقتل الكفار!! بدل قتل أمه وأباه! وكما كان في الدراما كان الواقع أشد كوميديا! ففي الدراما حين شعر خال الولد بأن إبن اخته قد يقتله قال: أنا مالي ومالك؟ اذا أردت أن تقتل فاقتل أباك!. والأب يرد بمزاح ممزوج بالخوف وبكل ما لديه من حجة ونص قرآني فيقول "الله قال وبالوالدين إحسانا ولم يقل وبالخال إحسانا"!!. تماما كالقائل " ليتهم بطشوا بالكفار!! "هذا تساهل كبير في سفك الدماء ليكن ما يكن المهم أن يكون الشر بعيدا عن الأهل، بعيدا عن الوطن وعن الإسلام.
تساءل الكثير: لماذا عندنا الابن يقتل أباه؟!
لقد قال الشيخ عثمان المنيعي مغردا: أنا إمام مسجدهم ولكم أن تتخيلوا أنهم لا يشهدون الصلاة معنا ووالدهم أول من يدخل المسجد ووالدتهم صلت التراويح معنا!.
هذا يشير إلى ولاء مختلف عن ولاء الأسرة، وطبعا اختلاف هويتهم لا يبرر قتل الأم! بل قد يكون انفتاحا فكريا كما يرى إريك إريكسون والذي يلقب بأبو الهوية لكونه أول المتحدثين عن أزمة الهوية -وكونه نشأ في فترة انتشر فيها القتل على الهوية، فترة هتلر- يرى إيريكسون أن نمو مفهوم الهوية يبدأ بأن الطفل ينتهج نفس طريقة والديه ثم يكبر فيناقش المسلمات وقد ينتهي إلى رؤية مختلفة عما كان عليه أبويه وهذا شيء صحي لأنه يعني انفتاحا فكريا، لكن بشاعة القتل توضح عدم القدرة على التوافق مع الأسرة، فعلى العكس التوأمان ضاقت بهما سعة الأفق حتى عن الانسجام في الأسرة، كل الأسر أو الغالبية العظمى لن تكون راضية على انتماءات ابنائها للأحزاب المتطرفة؟! لكن في غفلة قد تترك الأسر أبناءها فريسة لشباك القنوات التحريضية التكفيرية، فقد يسمح الأبوان عن غير قصد أن تلعب هذه الأحزاب دور الموجه بدلا عنها فعدم التوافق وعدم رضا الأبوين لا يعفيهما عن المسؤولية الأسرية، فجغرافيا تيار تنظيم داعش ترسم خارطة لأراضي زراعة الدواعش وهذا لا يعني تأييد أسر هذه الجغرافيا لداعش لكن بالضرورة هناك عوامل معينة تسهل في مجملها تكوين حواضن لهذا التنظيم بشكل أو بآخر وينبغي البحث عنها والحذر منها. الابن يراقب الأسرة ومزاجها وعواطفها فإذا كانت تتعاطف مع هذا التنظيم ولو من طرف خفي فإن الأبناء قد يكونون ضحية هذا التعاطف.
الانجراف للفخ والخدعة:
كما في حادثة حرق الكساسبة انتظر مجندو داعش على توتر المغردين المهاجمين المستنكرين لبشاعة التعذيب بالحرق وتبرئة الدين، وكان الدواعش جاهزون لهم بأدلة تاريخية وشرعية من جنس الفعل! والآن هناك جدلا يدور بين فريقين -في محاولة الاجابة عن لماذا يقتل أبن أمه وأباه؟- هناك من قال أنه لا يوجد في التاريخ الاسلامي ولا حتى الجاهلي من قتل أباه! وآخر قال هناك من قتل أباه على شروط كأن يكون الأب مشركا محاربا. السياقان الأول والثاني يقران أن هذا الفعل البشع هو اجتهاد، وهذا بحد ذاته مكسبا فالجدل انتقل خطوة عن المربع الأول وصار البحث فيه مدى صحة هذا الاجتهاد!! وذلك يمنح الفاعل حق التشريع، ويمنحه النقاش في الأدلة والنصوص الدينية والتاريخية!
إطلالة على الاحتجاجات والأدلة:
بين من يتنكر وجود فتاوى تجيز قتل الأب! وآخر يورد نصوصا ومواقف تاريخية مثل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] قال القرطبي: "قال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقيل: يوم بدر"
وقد نشر بعضهم في تويتر، فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه، وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء).
وقد ساق الفريق الآخر فهم مختلف لفتوى شيخ الإسلام وأدلة مناقضة مثل ما جاء في (الإصابة) استأذن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن أُبيّ ابن سلول رسول الله -صلى الله عليه وآله- في قتل أبويهما، فنهاهما عن ذلك
بل إن عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين حين مات ذهب ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام الرسول ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله وقال: يا رسول الله، قد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله: إنما خيرني الله فقال:اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]. وسأزيده على السبعين.
وهناك اتجاه ثالث يناقش بشكل مختلف ويرى"أن ما كان مناسباً للعصور الإسلامية الأولى، ما عاد صالحاً اليوم، ويدعو لإعادة النظر في التراث وتجديد الفكر الديني، بدلا من أخذ التراث وكأنه مسلمات وبشكل مطلق".
ليس هدفي أن أسرد وجهات الجدل بين من يقول بوجود نصوص ومواقف تاريخية لصحابي قتل أباه ومن ينكر ذلك فالنقاش بذاته يعبث بالنظام العام إنه يعبث بأهم السلطات في تنظيم شؤون المجتمع، ويعطي الحق لشخص مريض أن يكون مشرعا، بل الهدف هو أن نشير إلى النقطة السوداء في هذه الحكاية!! إننا نحتاج إلى إعادة النظر في صياغة المشكلة وتشخيصها قبل النقاش. فهدف المقال ليس الخوض في مناقشة الأدلة الشرعية بل يدّعي المقال أن المناقشة هذه جزء من المشكلة فهي تشجيع على امتلاك الجاني أعلى سلطة وهي سلطة التشريع، هناك فرضية تقول أن الجاني مريض نفسي فما كل من قرأ حادثة تاريخية عن قتل صحابي لأباه سيقوم بنفس الفعل ما لم يكن مريض، والمرض النفسي عينة من الناس موجودة في كل دين بل ومتوزعة بالتساوي على الأديان، ولا يكاد أخصائي نفسي إلا راجع عيادته مريض يدعي أنه مأمور من السماء بفعل كذا وكذا.. والمريض من أي دين لن يجد مشقة في أن يتصيد من النصوص الدينية ومن آيات السماء ما يبرر نواياه فليس كل من قرأ في القرءان قصة الخضر مع نبي الله موسى عليهما السلام الذي قتل غلاما وخرق سفينة وفعل وفعل، سيتأثر بها ويستنبط منها أحكاما يحاكيها. ذات مرة جاء لي مريض لديه ضلالات برسالة من زوجته تطلب فيها تفسيرا لسلوك زوجها الذي حاول قتل ابنه الرضيع وهي متأكدة أنه يحبها ويحب ابنها لكنه يقول: يرى في المنام كما إبرهيم عليه السلام رأى في المنام أنه يقتل ابنه فامتثل لأمر الله!. قالت له هذا حلم فقال "من رآنا فقد رآنا، فإن الشيطان لا يتمثل بنا"!
المرض النفسي والإضطرابات والضلالات:
ليس هناك تحليل نفسي جاهز ينطبق على كل الحالات فلكل حالة خصوصية ومتغيرات تختلف عن الحالة الأخرى بل حتى التوأمين فد تكون لكل منهما دوافع مختلفة عن الآخر. فربما تكن الحالة ضلالات لكن لن تخلو كما يعتقد ألبرت أليس من أفكار لاعقلانية هي المسؤولة عن إحداث الإرهاب مثل فكرة "بعض الناس أشرار ومجرمون ويجب معاقبتهم" وصاحب هذه الفكرة لا ينبغي أن يُناقش في أدلته الشرعية وفي أن هؤلاء أشرار أم لا وأنه تجب معاقبتهم أو لا تجب؟ وبأي طريقة! بل لابد أن يناقش لنقطة احترام العدالة والأمن وأن يُعرّف حدوده فهو ليس مشرعا وليس قاضيا بل ولا ينتمي للجهاز التنفيذي والنقاش في حججته الشرعية يضعه فوق كل اعتبار فلا يصح مناقش أدلته الشرعية؟! لأن ذك يعني أنه مجتهد ويمتلك حق التشريع! المناقشون حين يترجونه أن يرجع عن هذا الرأي هم يقعون في فخ تمليكه القدرة على النقاش مع الفقهاء وكأنه منهم، غاضين أبصارهم عن أنه يصادر السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية!! هذا الخلل الفكري يفتك بالنظام العام في العالم وبالنظام في الوطن كما يفتك بالنظام العائلي، داعش تمنح أفرادها الحق في امتلاك السلطات الثلاث والمناقشون أيضا يقرون لهم بهذا الحق حين ينجرون للنقاش في فهم النص ووجه الاستدلال. بل المفترض أن يناقشوا أن التصرفات غير المناسبة ناتجة عن جهل أو غباء أو اضطراب انفعالي، لذلك قد يحتاج أصحابها لتعليم وتدريب وبرامج إرشادية.
نظرية الاقتران أو الاستجابة الشرطية للعالم الروسي بافلوف التي تشير إلى اقتران بعض الأفعال والإشارات مع مثير محبب وبتكرار فلون الدم هذا المثير المنفر يستدعي مشاهدات كبيرة على اليوتيوب وتوتر والإشارات العنفية المتطرفة أيضا تجلب مشاهدات عالية فارتباط هذه المثيرات مع الشهرة كمثير مرغوب هذا الاقتران يعطي تلك المثيرات والاشارات العنفية القدرة على استحلاب الاستجابة فيكون لها من الجذب نفس مرغوبية الشهرة.
أما فرويد الذي لن يستغرب قتل الابن أباه بحسب عقدة أوديب المستوحاة من الأسطورة الإغريقية، وهي عقدة نفسية بسبب حب الولد لوالدته التي تجعله يغير عليها من أبيه فيكرهه، وقد يقتل أمه كما سياسة الأرض المحروقة ليحرم أباه منها، هذا التفسير غير المقبول قد يفسر سلوك المرضى فقط! غير أن كثير من الأمراض كمريض الفصام قد يقدم المريض تحت
[١٥:٠٦، ٢٠١٦/٦/٢٥] +٩٦٦ ٥٠ ١٤٢ ٠٢٢٣: تأثيره على القتل والمصاب بالاكتئاب الذهاني قد يقدم على محاولة قتل الآخرين تحت تأثير الضلالات. وكذلك مدمن المخدرات تحت تأثير التعاطي، وقد يعتقد من لديه عظمة ضلالية أنه لديه اكتشافات مهمة، وقد يقدم تحت تأثير هذه الضلالات -إذا لم تعالج- على ضياع مستقبله وأذى الآخرين. كما لا يبعد أن تكون هناك أبعاد بيولوجية قد تفسر الجريمة خصوصا أن الأخوين توأمان.
قد تشكل المكانة الوجودية والدور الاجتماعي الذي يلعبه الداعشي أكبر اغراء في جذبه للتنظيم فهو من نكرة إلى شخص مهم وحديث الجميع في قلب الصحافة بسهولة يصبح رجلا مشهورا ومهما ما يعطي تغذية راجعة ولفت للانتباه، فحتمية التحولات الاجتماعية، والحراك الاجتماعي بين الأجيال، فأن المجتمع إذا سادت فيه رؤية واحدة أو وحيدة فإن ذاك يحفز على ظهور رؤية مخالفة ومنافية لها كما وجود مدرستان متناقضتان هو بدوره محفز على ظهور مدرسة ثالثة وسطية ليفرض التنوع ذاته وتتقلب القناعات فمن قلب العلمانية التركية ظهر اسلام سياسي وفي قلب الإيمان الخالص يظهر الإلحاد وهكذا.
ويمكن لهذا السؤال الكبير والصدمة الغير مفهومة والغموض وعدم الفهم أن يلعب دافعا للانتماء لهذا التنظيم المتطرف، فالدماء وعدم وجود جواب شافي يبرر كل هذا العنف ويسوغ قطع الرؤوس من شأنه أن يولد رغبة في معرفة شعور القاتل بعد الذبح وأثناؤه؟! هذا بحد ذاته قد يدفع لخوض التجربة لعله يجد في اراقة الدماء اجابة شافية يفهم فيها هذا الشعور البغيض ومدى القدرة على المضي فيه!
ابسط ما يمكننا الإشتغال به هو الأفكار اللاعقلانية ومطباتها المعرفية كون تلك الافكار تبدو جيدة بادئ الامر فالإرهاب يبدأ فكرة وهذه الفكرة خطرة على الأمن الفكري تبدأ في شكل مطالب مثالية جيدة غير أنها غير واقعية أو لا تتسم بالتسامح تجاه القوانين المحبطة ومطالبة عادلة أفكار تبدو مثالية وجيدة وقد تبث من على المنابر ولا تحاربها الأسر والمدارس بل وقد تكتسب من مؤسسات التنشئة! قد يكتسبها الفرد من البيت والمدرسة فتساهم هذه المؤسسات في خلق ضيق الأفق دون أن تدري وقد تكتسب من خطيب المسجد الذي ينهي خطبته بدعاء: اللهم آمنا في أوطاننا. الإرهاب يبدأ من سعينا لبناء مدينة افلاطون الجميلة، وينتهي بالدمار للجميع.
بقلم الأخصائي النفسي
أ. فيصل إبراهيم آل عجيان