* يموت الإنسان ولا يبقى منه سوى الأثر، هكذا استقبلت جموع الناس نبأ رحيل الفنان الكبير عبدالحسين عبدالرضا، لتأخذهم اللحظة في رحلة سريعة في اعمال هذا الفنان الكبير. كيف تصول وتجول في رحلة فنية كوميدية نقدية تُقدر بعمر إنسان.
"درب الزلق" وصراع الإنسان البسيط من أجل تأمين الحياة والوقوف بمحاذاة التُجار الكِبار، واستعراض هموم الشباب على اختلافها، فما بين شاب مهموم بانتظار الحبيبة وعذابات الفراق، يُحاذيه أخرا مهموم بالتنمية ومحاولة الانتقال من المستوى البسيط إلى مصاف تجار الأغذية "لحم مال كلب" و "الجواتي" لدرجة أنه فكر في شراء الاهرامات! حتى عندما سافر الخليجيون البسطاء لمصر؛ قدم انماط السواح والتجار وانشغالاتهم هناك بعيدا عن الضوء المجتمعي الذي بطبيعته مُقيد، ولم يقدم نمطا واحدا للرجل في حله وترحاله، لم يشوه صورة الرجل الخليجي كما تفعل كثير من الأعمال الفنية الأخرى وتعزز تنميط صورته أمام الآخر، بل اعطى منه درجات متفاوتة، مابين العاشق الذي لم ينفك يفكر بحبيبته التي تركها في فريج بوصويلح، والطًموح الذي لم يشغله جمال نساء المدينة عن جمال تنميتها المتقدمة ورغبته في شراء الاهرامات، والأخير الذي ضعف أمام الجمال فوجد ضالته ليتزوجها فتهرب منه في النهاية! ثم يقدم لك الصدمة النفسية التي تنعكس على هيئة المبدع الذي يحاول التغيير ولكن الظرف المحيط لا يستجيب فيُخرج من "الجليب" ويقعد منتصباً جامداً والناس تحاول هزه بينما لايزال جامدا تجاه واقع ظل جامدا رافضا للتقدم. وتظل تضحك وتتفجر من الضحك كلما شاهدت درب الزلق، يتقدم بك العمر و لا يشيب ذلك الدرب. وفي نهاية الحلقة الأخيرة، لن تأخذ شيئا ليس مُقدرا لك أخذه، فأنت بسيط ولا مفر من أن تكون بسيطا تبيع "النعل".
* تتملكك مشاعر الأسى على خيبة هذا الشاب الطموح ولكنك لا تنفك تضحك وتحبه كلما ضحكت أكثر لأنه أحد اقدارك أيها المُشاهد.
و في "مراهق في الخمسين" يقدم لك تقلبات العمر قبل ومابعد الخمسين، ويستعرض لك الحالة النفسية والاجتماعية، يصارحك بتحولات الرجل الخمسيني وتحولات المرأة ايضا ويُفرق بينهما بشكل واضح جداً، ليُجبرك على البقاء أسيرا للشاشة تنظر لنفسك وكل الرجال والنساء من حولك، وترى الأبناء مرة في واقعك ومرة أخرى في الشاشة! ناقدا صريحا ومباشر من أول لحظة لافتتاح الستار حتى آخر مشهد.
*أما " باي باي لندن" وضحكتها الواقعية الساخرة، ففي كل عيد أنت على موعد مع هذه المسرحية لتضحك راضياً موافقاً على واقع ازدواجية العربي - وأنت عربي - الذي يتنقل بين ثقافتين مختلفتين.
الفن الذي يجعلك ترى نفسك قابعاً في النص، تشعر بالتعاسة وضيق الحيلة فتبكي في احدى مشاهده لأن القضية لامست أوجاعك التي لا تملك مفتاحا لها، وتضحك مرة أخرى في تصالح تام وحُب كبير على مشهد آخر، لم ينفك يقدم لك تناقضتك واخطاءك الغبية والعنيدة بنكهة ظريفة، يُجبرك على ذرف الدموع وأنت تضحك وتتعلق بالفنان الذي يُصارحك بالنقد، ليُظهر لك الأشياء كما هي دون مواربة.
*ومع كل جملة ساخرة تعصر بطنك من الضحك، تكمن حكمة قابعة في قلب الضحكة المتفجرة من اعماقك، رحلة فنية تُقدر بعمر انسان، الكوميديا الناقدة؛ الطريقة الوحيدة لمطالعة النقد دون ألم بل على العكس بضحكة عميقة.
هكذا يكون الفن الكوميدي نافذة لمحاكاة هموم الناس، قضاياهم وأوجاعهم وافتراض حلولاً لمعاناتهم ولكن المُخرج لا يختم المشهد بتنفيذ المقترح وحل المشكلة، فترى واقعك ماثلاً أمامك بعناده وحفاظه على الخلل!
*وبعد الرحيل المحتوم، لماذا تأثرت على رحيل فنان ظل يُضحِكُكَ وهو ينقدك طيلة مسيرته الفنية؟ وكلما انتقدك كلما احببته أكثر! كيف يكون النقد مصدراً للحب! هل لأنه الفنان الذي لم ينافقك بل كان شفافا معك لأبعد الحدود، حتى في فلتات لسانه لم تجد تقييداً؟؟ إذاً؛ هل نحن نُحب النُقاد أكثر من الآخرين الذين يأخذون من المجاملة طريقا لبلوغ الشهرة والجماهيرية!
*ثم نقول: ما الذي يتبقى للإنسان بعد رحيله سوى الأثر! هل جربت أن تتقفى أثرا عابرا في حياتك؟ هل فكرت يوما أن احدهم سيتحدث عن بقاياك في نفسه وآثارك في حياته بعد الرحيل؟ بعض الناس تموت تاركة حساً جميلاً وروحاً طيبة بالمحبة والسلام، بينما يذهب آخرين مُخلفين ورائهم وحلاً من الكراهية، إنه كل ما يتبقى منك على الأرض؛ آثارك مع سكان الأرض، الذين جعلتهم يتسامرون مُجتمعين من مواقعهم المختلفة وخلفياتهم المتباعدة ليضحوا سوياً على واقعهم المشترك بكل تضاريسه، مُتجاهلين اختلافاتهم ومُتعاليين فوق طبيعة الاختلاف، متفقين على وجود الفساد المالي والاقتصادي والتقلبات النفسية والسلوكية ومحاولات التنمية والصدام الثقافي وغيره من قضايا الإنسان .. هل هذا هو سبب هذه المحبة لهذه الفنان؟ بقايا الفرح التي كان يبثها في نفوس ووجوه المشاهدين؟
*الفنان عبدالحسين عبدالرضا، برحيلك منحتنا فرصة لمطالعة الفن والواقع والكوميديا بعين ناقدة تزيدنا عمقا في مراقبة الحدث. رحمك الله والبقاء له وإنا إليه راجعون.