بقلم ـ عيسى هجرس – مملكة البحرين:-
منذ بداية الخليقة تَعرف الزمن على الليل والنهار، وتَعرفت الأرض على الشمس والقمر، وتلاقى البحر والبر على مواعيد المد والجزر، وجلس التاريخ والجغرافيا يكتبون كتاب الحضارات، ورسم الرجل والمرأة فجر الوجود وانبثاق الحياة العاقلة.
في هذه المسيرة الموغلة في عمق الزمن إلى يومنا الحاضر، كل الشركاء الآنف ذكرهم حظوا بتكافؤ الفرص وتقاسم الحقوق، ما عدا المرأة التي عانت من طغيان وتمرد الشريك، ولم تفهم قط كيف تكون نصفه الآخر، وهي في نفس الوقت المقسم أرباعاً وأخماساً وأجزاءً بكل جشع نزوات الذكورة وجور الأعراف والتقاليد. حتى في بعض الأحيان ما عادت تملك جزءاً ضئيلاً من كيانها المهدور الحقوق. معاملة جائرة ومعادلة لا تستقيم مع كل الحسابات وقف الرجل فيها يُملئ ما له من حقوق، ولم يقرأ ما عليه من واجبات.
عجبي كيف يكون كاتب العدل أميُّ العدالة، وكيف تُنصب محاكم ويقف قضاة يقرأون ما حُرم عليها ويحجبون مكانتها وقائمة حلالِها في دين من أتى بالرسالة.
عالم الذكورة الأعرج، كسيح المنطق، وبه هشاشة فكرٍ عطلت تطور ونمو نصفه الآخر.. عالم يعجُ بتنمّر الغاب وسطوة المخلب، القوي يأكلُ الضعيف، وكل بقعةٍ فيه يملكها وحشٌ يحكمُ قطيع إناث.
إن قصة ظلم المرأة مُثلت وصُورت مشاهدها بتفاوتٍ من مكانٍ لآخر بتغيير الأبطال والرؤية الإخراجية، مع الإبقاء على نفس (البطلة) معذبة ومقيدة في زنزانة.
سؤالٌ يدق أجراس التعجب..!!! كيف يقفُ هذا المسمى (رجلاً) متناسياً سنين ضعفه، وذاك الرحم الرؤوم “منزل التكوين الأول” واليد الرحيمة التي كانت أرجوحة طفولتهِ والثدي الذي سقاه إكسير الحياة..؟؟
كيف ينسى أغاني المهد وترانيم الأمومة من حنجرةٍ أنهكها سهر الليل، لتصدح لصغيرها لحن غفوتهِ ونعيم نومهِ نغماً لا يفارق سمعهُ حتى اللحد…؟؟
كيف ينسى من كانت له الكتاب الأول الذي قرأهُ قبل أن يعرفَ الجلوس على مقاعد الدراسة…؟؟
وكيف يتمردُ الضرير على من أهداه النور، وكلما زادت حدة بصرهِ رآه هدفاً للرماية..؟؟
في قياس القوة بين الرجل والمرأة هناك مزايا وسمات لو نَصَب الرجل التحدي فيها، لكانت له مضربَ حرج وخذلان، ودرساً بأن القوة ليست رعونة العضلات المفتولة، وإنما هي العقل والعاطفة المسؤولة.
في ظني لو حُمل الرجل معاناة المرأة شهرياً وأثقال التسعة شهور حولياً، لكان يكفيها الفوز عليه بالضربة القاضية.
إن مهندس الكون، بديع السماوات والأرض أودع فيها الحنان والرحمة والوفاء والصبر، وفي أغلب الأحيان بصورة مطلقة، وجعل هذه الصفات “نسبة” عند الرجل يكاد تكرارها ثابتٌ من جيل إلى جيل.
ولو أراد الرجل أن ينافس ويسابق صفاتها وبالذات في “الوفاء” لوجد نفسه بغلًا يسابق فرساً.
وعندما نذكر عاطفتها العاقلة، يمكننا القول إن المرأة قلعةٌ لا تفتح بابها إلا لمن أَذنت له بالدخول تسليماً عاطفياً وليس استسلاماً قهرياً، أما الرجل فهو فارس آيل للسقوط بمجرد أن يصل باب القلعة.
المرأة محركٌ جبارٌ وقودهُ الطاقةُ الناعمة. فكل الرجال الذين أبدعوا في العلم والأدب والفنون وشيدوا عمارة الحضارات، أغلب إلهامهم كان مصدره (امرأة). فعلى سبيل المثال لو لم تكن هناك امرأة لتعطل معظم الشعر وجفت بحوره، وتعثر الغناء والموسيقى وتحولوا إلى أناشيد وموسيقى لطابور الصباح.
كل المجتمعات هي خليطُ بشر، والبشر مجموعة أُسر، وكل أسرةٍ نواتها الأم، حواء التي بمثابة الشمس بجاذبية حنانها يدور حولها كل النظام الأُسري كبيراً وصغيراً، وهي الرابط الضابط لعرى المحبة، وهي الشجرة الظل للأفياء والنسائم، إذا حل الهجير على العائلة.
هي العطاء الذي لا يعرف المنَّةَ، والحب الذي كلما زاد الظلم عليه فاض محبة.
قالت لي جدتي يومًا يا ولدي “إن الأب حاجة والأم يُتم” أي أن اليتيمَ الحقيقي هو من ماتت أمهُ، تعظيمًا لمكانتها وتجسيداً لحجم الفقد والخسارة بعد رحيلها.
الرجل مهما بنى من قصور وشيد عمارات وامتلك المزارع، يحتاج إلى من يدبر أمره في حساب الحياة جمعاً وطرحاً وقسمةً، والمرأة عندما تعطى هذه المهمة وصك الثقة، إن كانت زوجةً أو أختاً أو أماً أو ابنةً، فلن يكون لحساب الدفاتر ضياع، ولن يكون في الجمع متبعثر، ولن يكون هناك رصيد يغردُ خارج الودائع.
كان الرجالُ قديماً يضربون الأمثال فيمن أهدته الحظوظ امرأةً مدبرةً، ويرددون أبياتاً شعرية تقول:
ما يفيدك في حياتك.. الا النخل والزراعه
ولا مره بنت طيب.. تجمع وتحمي متاعه
وتحط ذا فوق ذا.. حق ساعةٍ دون ساعه.
علمتنا المرأة أنهُ إذا كان نصفُ الكرةِ الأرضيةِ كل يوم يتخبط في الظلام في دورة الليل والنهار، فإن المرأة نصفُ الإنسانية الآخر، مشعة دوماً بالضياء والنور أين ما حل الليل والنهار، وهي المنارةُ التي تمد الهداية لسفينة الحياة في بحار الجهل والظلام.
فتبًا لإرث الرجعية وعنتريات الهمجية، ولتُقطع اليد الآثمة والذكورة المجرمة التي تنمّرت على من خرج من تحت طهر رجليها زمزم الماء، وكرمت بجنةٍ تحت قدميها.